إشكاليات المسار الجنائي وضحايا الاعتداءات الجنسية
رغم وجود وعي معين في مجتمعنا لأثر الاعتداء الجنسي؛ فإن المعيقات التي لا تزال تشكل عواملاً مهمةً في عدم البوح عن الاعتداء الجنسي؛ تحد من قدرتنا كمجتمع في محاربة هذه الجرائم بطريقة منظمة وممنهجة وكقضية اجتماعية-سياسية تخصنا جميعاً. فما زال مجتمعنا يتعامل مع موضوع الاعتداءات الجنسية كقضية فردية أو عائلية تتعامل معها الضحية والعائلة من منطلق شخصي وعائلي؛ وتميل الأجهزة الاجتماعية عامةً؛ من أسرة ومدرسة وأخصائيين، إلى التمحور حول عذرية الفتاة وطهارتها، و وشرف العائلة، وترك جريمة الاعتداء جانباً. ويعود هذا الأمر في مجتمعنا العربي لأسباب عديدة مثل فقدان الثقة في مؤسسات الدولة، فأجهزة الضبط الاجتماعي مثل الشرطة، جهاز القضاء والخدمات الاجتماعية لا تعترف بخصوصية المفهوم النفسي الاجتماعي-السياسي والأبوي المرتبط بالمرأة والفتاة العربية عند تعرضها لاعتداء جنسي؛ وتفاعله مع الجهاز الثقافي والسياسي القائم.
أن عدم مناقشة القوانين المسيّرة في الدولة ، وعدم تطوير فكر نقدي لفحص مدى ملاءمة هذه القوانين لواقعنا الفكري الأبوي الثقافي، هو إحد إسقاطات سياسة التكتم الذي ينتهجه مجتمعنا في التعامل مع الاعتداءات الجنسية من جهة؛ ومن جهة أخرى، ضعف قوة الحركات النسوية وحركات ومنظمات حقوق الإنسان في مواجهة هذه المشكلة وتحويلها لقضية اجتماعية-سياسية وليس مشكلة فرديّة خاصّة.
كما أن تخوفات الضحية من عدم تفهّم،العائلة خاصةً والمجتمع عامةً، آلامها ومشاعرها- بالأخص في حالة كان المعتدي على صلة قرابة وخوفها من خطوة انتقامية، كدلك شعورها بالذنب وخوفها من أن تلام على الاعتداء الجنسي، والخوف من أن تقتل "لمسّها بشرف العائلة"؛ ناهيك عن شعورها بالاشمئزاز من نفسها ورغبتها بالهروب من مواجهة الحدث , كل دلك يشكل عواملا هامة ومعيقة للبوح بالاعتداءات الجنسية .
إن توفّر عنوان أومرجع للضحية، وإيمانها بمقدرته على تفهّم وقوع الاعتداء، تصديق أقوالها وملازمتها حتى مرور الأزمة؛ أي الإيمان بوجودية الدعم بلا شروط في هذه الحالة، يساند الضحية نفسياً واجتماعياً في التعامل والتوافق مع إسقاطات الاعتداء الجنسي والإيمان بأن الحياة مستمرة. فالدعم الاجتماعي والنفسي خفّض من نسبة الأمراض والعوارض السايكوسماتيكية ومن محاولات إيذاء النفس والانتحار؛ وأثّر إيجابياً على الصحة النفسية للضحية؛ حيث أكدت %55.7 من المُستَطلَعات في البحث الذي أَجرته د. نادرة شلهوب-كيفوركيان بالتعاون مع جمعية نساء ضد العنف والجامعة العبرية في القدس حول البوح عن الاعتداءات الجنسية؛ أن دعم العائلة النفسيّ والاجتماعيّ قد ساعدهن في التعامل مع الأزمة.
تجد المعتدى عليها جنسياً التي تتوجه إلى الجهاز الجنائي نفسها أمام جهاز غير ملائَم للتعامل مع احتياجاتها وتجربتها الخاصة. فتجد نفسها في حالة فقدان السيطرة عما يجري في المسار الجنائي وأن تفاصيل التجربة تمر في مسار تصفية لما يسمع ويسجل منها ويُقرّ بعلاقته بالقضية، ولا حاجة لأن نذكر عدم توفر آلية منظمة لتوفير معلومات وحتلنة عن الإجراءات ومعالجة الشكوى، والوسائل التي من خلالها يمكن للضحية ضمان حقوقها.
في أغلب الأحيان، تكمن الفروقات في منهجية وطبيعة العالم القانوني مقابل العالم العلاجي، في كون القانون يرتكز على أنظمة التي من المفروض أن تكون ملائمة وقابلة للتطبيق على كل فرد تقريباً ويحاول إيجاد الصلة المباشرة والقاطعة بين الأمور ويصبو الوصول أو حتى خلق معلومات موضوعية؛ بينما يتمحورالمسار العلاجي حول شخصية الإنسان المركبة وتجربته الشخصية والخاصة.
القانون الجنائي موّجه لتوضيح الحقائق بأعلى درجة ممكنة من الدقة والتأكيد، كما ويعتمد على أدلة ومعلومات بالإمكان الاستناد عليها؛ إحدى الوسائل هي شهادة شاهد في المحكمة؛ حيث يتم التحقيق معه/ا علي يد كل من الطرفين وأحياناً حتى من قبل الحاكم/ة، وأسلوب التحقيق في المحكمة، يتمييز بأسلوب التداول المتنازع؛ والذي محوره النزاع ما بين النيابة والمتهم؛ يحاول فيه كل طرف استعراض قوة الأدلة المتوفرة في حيزه والمس بمصداقية أدلة الطرف الآخر. هكذا يتعامل هذان الطرفان مع المسار الجنائي، لكن هنالك طرف آخر في هذه الإجراءات الذي من المفروض أن نعي وجوده، ألا وهو الضحية.
بالرغم من وجود قانون حقوق متضرري الجريمة (2001( وقوانين أخرى تحفظ حق الضحية؛ ألا أن وجود القوانين غير كاف بحد ذاته ولا يضمن ممارسة الحقوق ألمنصوص عليها في القانون من قبل المعتدى عليها جنسياً. لذا ارتأينا في جمعية "نساء ضد العنف" تبني مشروع مرافقة ضحايا الاعتداءات الجنسية في المسار الجنائي، والذي يهدف تقديم الدعم والمرافقة للمعتدى عليها من أجل تخفيف وقع مجريات التحقيق على المعتدى عليها ، وتوفير المعلومات المهنية خلال المسار، مساعدتها في ملاحقة تطورات القضية وأيضا محاولة ملاءمة توقعات المعتدى عليها من المسار الجنائي. في هده المقالة نستعرض أمامكّن/ م عدة إشكاليات رصدناها في الجمعية خلال سنتي العمل ضمن مشروع " ملرافقة ضحايا الاعتداءات اجنسية في المسار الجنائي " :
• حسب قانون متضرري المخالفات الجنائية يحق للمعتدى عليها جنسياً المطالبة بمحققة لأخذ الشكوى منها، ألا أنه وللاسف لا يتم الكشف عن هذا الحق أمام المعتدى عليها ولا تقوم الشرطة في كثير من الاحيان بإعلامها بتوفر مثل هذه الإمكانية، لذلك؛ تضطر المعتدى عليها أن تتحدث عن الأزمة مع كل صعوباتها أمام محقق رجل، مما يؤدي في كثير من الأحيان لعدم ذكر تفاصيل الاعتداء أو عدم ذكر التفاصيل بوضوح وخاصة "المحرجة لها" وبالتالي يستغل محامي الدفاع كل الإضافات أو التغييرات ألتي تطلرأ على أفادات المعتدى عليها في مراحل مختلفة من التحقيق للطعن في مصداقية وصفها للاعتداء في حال وصلت القضية للمحكمة.
• يحق للمعتدى عليها مرافقة شخص لها أثناء الاستجواب في الشرطة وهذا الحق أيضاً لا يتم ذكره أو إعلام الضحية به, الامر الدي يحرم المعتدى عليها من فرصة تلقي الدعم خلال مسار التحقيق الصعب من أنسان-ة تشعر بالامان معه – ا .
• سنة 2004 خصص جهاز الشرطة المركزي في القدس مبلغ 5000 شاقل لكل منطقة من أجل تأهيل محققي الشرطة من قبل مراكز المساعدة لضحايا الاعتداءات بموضوع أزمة الاعتداءات الجنسية، ولكن عند توجهنا كجمعية نساء ضد العنف لفحص إمكانية بداية الدورة في الشمال فوجئنا برد من قبل المسؤولة في المقر المركزي في القدس - قسم حقوق متضرري الجريمة- بأن هذا المبلغ لا يشمل منطقة الشمال بسبب عدم وجود ضابط/ة مركز/ة لحقوق ضحايا الجريمة منذ سنة ونصف ولا يوجد شخص آخر في الشمال يمكنه متابعة هذه الدورة من قبلهم.
• هنالك 8-9 محققات عربيات فقط في مجال العنف والاعتداءات الجنسية داخل سلك الشرطة، وهذا بالطبع يشكل عائق أمام النساء المتوجهات لتقديم شكوى خاصة أن هذه المحققة قد تكون غير متواجدة في المحطة أو أنها في إذن أو قد تصل مرة واحدة في الأسبوع لمدة ساعتين إلى أحد مراكز الشرطة. لذلك ممكن أن تستقبل الشكوى متطوعة عربية في سلك الشرطة غير ملمة بصعوبات وتأثيرات الصدمة، ولا تملك طرق اتصال سليمة مما يصعّب على المشتكية. وفي بعض الأحيان هذا الأمر يمنعها من الاستمرارية في تقديم الشكوى، أو يحصل بأن يكشف أمرها لعدم ضمان السرية من قبل المحققة أو المتطوعة في سلك الشرطة وبالتالي قد تندم المعتدى عليها من تقديم الشكوى لكشف أمرها في البلدة لذلك قد يفسر ندمها بأنها قدمت شكوى كاذبة أو ملفقة.
• إن اللغة العربية لغة رسمية في البلاد ويحق لنا إستعمالها في كل مكان؛ لكن بما أن الترجمة خلال التحقيق والمسار القضائي كله مكلفة لميزانية الدولة فإن النيابة العامة قد تتجرأ بأن تطلب من المعتدى عليها بأن تتحدث بالعبرية لأن هذا أوفر للدولة؛ أو ان يترجم أقوالها محامي الدفاع عن المتهم. حتى أن القاضي أو محامي الدفاع قد يعترض بأن تتحدث المعتدى عليها باللغة العربية لأنه حسب رأيه هي ملمة باللغة العبرية وباستطاعتها التعبير بالعبرية , رغم معرفتنا الاكيدة بأن معظم النساء العربيات يستصعبن التعبير بشكل طليق عن مشاعرهن وأحاسيسهن باللغة العبرية , فما بالك في حال التحدث عن أزمة مثل أزمة الاعتداء الجنسي . وأيضاً؛ قد تعطى تفسيرات مُغالِطة للغة أو تحليلات شخصية لبعض المصطلحات، مما قد يؤدي أحيانا ألى أستعمال هذه التفسيرات والتحليلات كسبب في التخفيف على المتهم المتواجد رهن الاعتقال حتى إنهاء القضية وإخراجه من المعتقل.
• تمنع المعتدى عليها في بعض الحالات من استلام لائحة الإتهام أو نسخ من فحوى التحقيقات بسبب تخوف النيابة بأنها قد تعطيها لأحد الشهود في قضيتها، مع أن القانون ينص بأنه بإمكانها الإطلاع على لائحة الاتهام والحصول على نسخة منها.
• المدة الزمنية الطويلة التي قد تستغرقها قضية وصلت المسار؛ وهذا مرتبط بتفرغ القضاة ومدى جاهزية محامي الدفاع خاصة أنه يعتمد في الكثير من الحالات مماطلة المجريات من أجل أن تيأس المعتدى عليها وترضى بالقليل فقط من أجل إنهاء القضية ( كنوع من الضغط النفسي عليها).
• يحق للمعتدى عليها , حسب القانون , الحصول على تبليغ بخصوص اتخاذ قرار عدم مواصلة التحقيق في قضيتها أو عدم تقديم لائحة اتهام ضد أحد بما يتعلق بالمخالفة العينيّة؛ فهنالك قضايا قد تستمر حتى 7 سنوات حتى تنتهي ويبث بها نهائياً وقد يتم إغلاق الملف بعد سنة أو سنتين من التحقيقات من دون إعلام المعتدى عليها قبل إغلاقه أو حتى من دون عقد جلسة معها للتحقق من مصداقيتها وأخذ انطباع من أجل الاستمرار في القضية؛ حيث يتذرع الجهاز القضائي بأسباب تقنية بحتة تتعلق بالكمبيوتر والقوى العاملة والميزانيات الشحيحة لتبرير عدم إعلام المعتدى عليها بمجريات وتطورات القضية، بما فيها أوقات خروج المعتدي لاجازات من السجن , بعد أدانته .
• التحجج بالموروث الثقافي لمجتمعنا العربي ووضعه فوق القانون؛ ففي أحد القضايا ألتي تابعناها أراد أحد المدعين من قبل الشرطة التوصل إلى صفقة إدعاء حتى من دون إعلام المعتدى عليها بحجة أنها فتاة عربية من مجتمع محافظ وليس بمقدورها الوقوف أمام القاضي والمعتدي لتشهد أمام المحكمة حسب تحليلاته الشخصية.
• قد تقوم النيابة العامة برفض حضور وتواجد عائلة المعتدى عليها في قاعة المحكمة أثناء القضية وذلك بدعوى تجنب الاحتكاك مع أهل وعائلة المعتدي، علما بأن القانون يحفظ للضحية مرافقة شخص لها في جلسات المحكمة وأهمية ومدى الدعم الذي قد تتلقاه في حال وجود أهلها إلى جانبها في هذه الحالة. وفي مثل هذه الحالات يكون على المعتدى عليها ألمثول أمام المحكمة لوحدها بدون أي دعم بينما يحاط المتهم بعائلته وأصدقائه متلقيا ألدعم والتشجيع منهم .
• الكشف الشخصي الفاضح لخصوصيات الضحية أمام المعتدي ومحاميه. إذ أنها قد تسأل عن ماضيها وعلاقاتها، على الرغم من أن القانون ينفي هذا التوجه المهين أو بأن تؤخذ التقارير الطبية أو النفسية للمعتدى عليها قبل تقديم الشكوى أو قبل وقوع الاعتداء.
من هنا نتساءل هل تشكل هذه القوانين ضمانه لحقوق المعتدى عليها أم أنها على أرض الواقع ومن خلال ممارسات جهاز الشرطة والجهاز القضائي تتحول الى الية للمحافظة على حقوق المعتدي وعدم ألمساس بها ؟!
بقلم نائلة عواد، مديرة المشاريع - نساء ضد العنف.