لقد شكلت العلاقة بين المرأة والدولة موضوعاً لكثير من الأبحاث النسوية، خصوصاً في السنوات القليلة الماضية، حيث ترى هذه الأبحاث ضرورة ربط مكانة المرأة وقمعها ليس بالثقافة العائلية والأبوية – البطركية فحسب، بل كذلك بالقمع المؤسساتي في الدولة، والدور الذي تلعبه مؤسسات الدولة في تكريس دونية المرأة وتعظيم القيم الذكورية الأبوية ( غانم، ه،2005. مواقف من قضايا المرأة – جمعية نساء ضد العنف).
حيث شهدنا على مر السنين وخاصة في السنوات الأخيرة، تقليصات في ميزانية الدولة، خاصة في مجال الرفاه الاجتماعي. وطبعا كانت النساء هن المتضررات الأكبر لأنهن الشريحة المستضعفة، مما انعكس على ارض الواقع، إذ أننا ومنذ سنوات نصرخ لعدم وجود ملاكات كافية للعاملات الاجتماعيات في مجال الخدمة الاجتماعية، بحيث أن لكل عاملة اجتماعية هنالك ما لا يقل عن 100 ملف تحتاج لمتابعتها وعلاجها بنسبة وظيفة لا تصل الـ 50%، مما يصعب عملها في معالجة الأمور ويصبح تعاملها مع توجهات النساء والفتيات في ضائقة كحل لإخماد الحرائق وليس أكثر من هذا.
وكلنا نعلم أننا في أوضاعنا الاقتصادية هذه، خاصة في مجالسنا المحلية والتي تشهد إضراباً للمستخدمينات وخاصة إغلاق لمكاتب الخدمات الاجتماعية تزيد الطين بلة، فبدل أن يعطى للعاملة الاجتماعية كامل وقتها (القليل) لعلاج ومتابعة القضايا، لديها مهمة النضال من اجل لقمة عيشها. وهذا كله طبعاً على حساب الأفراد الأشخاص اللذين يحتاجون لدعم ومساعدة وأذن صاغية ومتابعة من اجل الخروج من ضائقتهمن.
إضافة إلى المعيقات آنفة الذكر والتي تحد العاملة الاجتماعية من القيام بمهامها. هنالك سياسات وزارية لا يمكن لأي إنسان ذي ضمير حي أن يستوعبها. وعند مناقشتهم بها يدعّون أن هذه هي الأنظمة والشروط.
مثال على ذلك، الشروط التي تضعها وزارة الرفاه من اجل توزيع ميزانية مراكز مساعدة ضحايا العنف والاعتداءات الجنسية. حيث أقرت 6 شروط أساسية وهي:
1) عدد التوجهات ( والتي فقط تعتمد التحرشات والاعتداءات الجنسية).
2) عدد اللقاءات مع المتوجهات.
3) عدد المحاضرات التي يقدمها المركز من اجل رفع الوعي.
4) عدد مجموعات التدعيم للنساء اللواتي تعرضن للاعتداءات الجنسية.
5) عدد الملاكات التي يشغلها مركز المساعدة.
6) عدد مجموعات التأهيل للكوادر المهنية.
فإذا تحدثنا عن "تسعة" مراكز مساعدة- تل أبيب, القدس, بئر السبع, المتدينات اليهوديات, رعنانا, تئير, الناصرة, حيفا, كريات شمونه.. ونظرنا إلى حسابات الوزارة نرى بان هذه السياسة ما هي إلا سياسة إغناء للأغنياء وإفقار للفقراء، فهي تحسب بناء على عدد التوجهات للاعتداءات الجنسية فقط، ومركزنا التابع لجمعية "نساء ضد العنف" هو الوحيد الذي يستقبل توجهات لكافة النساء العربيات واللواتي تعرضن لشتى أشكال العنف وليس فقط العنف الجنسي. كما وانه في حال كان المركز يملك ملاكات وطاقات بشرية من ناحية طواقم عمل ومتطوعات، هذا بالطبع سيؤدي إلى الانتشار بصورة اكبر وبالتالي عدد التوجهات سيرتفع. أي أن سياسة الوزارة هي تكبير وتعظيم الأقوياء، دون وجود أي محفزات للمراكز الفقيرة المستضعفة وبالتالي يؤثر على مدى توسيع عمل هذه المراكز والوصول للنساء اللواتي بحاجة إلى الدعم والإصغاء والمرافقة في كل خطوة تختارها.
من الواضح أن جميع المقاييس عددية والسؤال الذي يطرح نفسه، ما هي آليات الرقابة لفحص مدى مصداقية هذه الأعداد في التقارير المقدمة من أجل توزيع الميزانيات، خاصة عند التعامل وإعطاء المناقصات لأصحاب رؤوس الأموال والتجار اللذين يتعاملون مع موضوع توفير الخدمات للنساء المعنفات على أنه ربح وخسارة وبأنه مصلحة تجارية ليس أكثر.
سياسة كهذه تنعكس أيضا على عمل العاملات الاجتماعيات في مكاتب الخدمات الاجتماعية لعدم وجود ملاكات وعدم تخصيص ميزانيات كافية (لان حساباتهم حسب سياسة "الدفع على الرأس" وليس حسب الفكر النابع من أهمية الوصول إلى كل امرأة وفتاة في خطر)، مما يقلل من إمكانيات الوصول إلى الفتيات والنساء في ضائقة. وبالتالي يدعّون في الوزارة عدم وجود فتيات يحتجن الخدمات ثم يغلقونها كما حدث في نزل السوسن للفتيات العربيات اللواتي يعانين من مشاكل وعنف في العائلة ولكن حياتهن ليست في خطر، حيث كانت لهذه الخدمة فائدة جمّة في إعادة الثقة للفتاة في ذاتها ومن اجل استمرارها في ممارسة حياتها وحقها في العيش بكرامة والتعلم والتأهيل المهني, إلا أنه وبحسب ادعاءات الوزارة لا توجد أهمية وحاجة لمثل هذه المؤسسة وسرعان ما أغلقوها ولم يطرحوا حتى بدائل فورية لهؤلاء الفتيات بادعاء عدم وجود عدد كافي من الفتيات في ضائقة المتوجهات لنيل هذه الخدمة. وبالتالي سؤالنا هنا للوزارة: هل يوجد عدد عاملات اجتماعيات كافي للوصول إلى جميع الفتيات في ضائقة في بلداتنا العربية وبالتالي يمكنهن الاستفادة من هذه الخدمات ؟ والجواب طبعا لا، لان جميعنا يعلم بأن مكاتب الخدمات الاجتماعية في بلداتنا العربية تعاني من شحّ الموارد المادية ومن نقص حاد في ملاكات الأخصائيين/ات الاجتماعيين/ات ، والذي يتراوح إلى 200 ملاكاً حسب أقوال العامل الاجتماعي السيد إميل سمعان منسق منتدى مدراء مكاتب الخدمات الاجتماعية من خلال مقال د. ابراهيم محاجنة حول من المسؤول عن إخفاق مكاتب الخدمات الاجتماعية في بلداتنا العربية( كتاب دراسات، 2008)، على الرغم من انه في البحث الذي أجريناه في جمعية "نساء ضد العنف" حول موضوع حماية المرأة من العنف، أعرب 62.9% من المستطلعون تأييدهم التوجه إلى خدمات الرفاه الاجتماعي, كما وعبر 65.7% دعمهم الاستعانة بالخدمات التي توفرها الجمعيات النسوية. وهذا يؤكد أن مجتمعنا لا يعارض قيام مراكز داعمة تحمي النساء من جميع أشكال العنف التي تتعرض لها، وإنما كل سياسة الوزارات واقتصادياتها تحول دون تقديم الدعم لإقامة هذه المؤسسات أو من يقطّر إقامتها اعتمادا على مبدأ (الاكتفاء بالقليل) وتحت سياسة الحفاظ على التقاليد العربية وسياسة (المشيخة والعشائرية).
هذا بالإضافة لوجود مأوى واحد ووحيد للفتيات العربيات في ضائقة والذي يستقبل فقط 12 فتاة في آن واحد من جيل 12 – 25. وهنا نسأل الوزارة ماذا مع باقي الفتيات؟ هل معقول أن فتياتنا العربيات من الشمال إلى أقصى الجنوب، اللاتي يتعرضن لخطر يسعهن مأوى واحد ووحيد ؟ أم أن هنالك طرق أخرى تتبعونها من اجل إخماد الحرائق وتذويت العقلية والأفكار الدونية وتشجيع أساليب المخترة من مبدأ "فخار يكسر بعضه" كوسيلة أفضل من أي مؤسسة نسوية حقوقية تدعم النساء من اجل نيل حقوقها!!!
وهكذا أيضا بالنسبة للبيت الانتقالي الوحيد للفتيات العربيات والذي يهدف إلى تأهيل الفتيات من اجل الخروج لحياة مستقلة وفقط باستطاعته استيعاب 10 فتيات بالسنة.
إننا بهذا نرى ونوجه اللوم الأساسي والمسؤولية إلى:
1) الدولة وسياستها الاقتصادية المجحفة بحق النساء بشكل عام والنساء العربيات بشكل خاص.
2) إلى وزارة العمل والرفاه الاجتماعي بسبب سياستها في التعامل مع الموضوع "كرؤوس" وليس كقضايا اجتماعية /حقوقية هدفهم تدعيم وتغيير الواقع كوكيلي تغيير وليس المحافظة على الواقع المرير الذي يجحف بحق النساء.
ومن ناحية أخرى نود لفت النظر وتوجيه همسة عتاب :
3) إلى المفتشات/ المفتشين في الوزارة اللذين يشكلون حلقة الوصل بين العمل في الحقل والواقع وبين الوزارة وسياساتها وهم الأداة التنفيذية والمراقبة في نفس الوقت وتقع عليهم مسؤولية ملائمة السياسات للواقع واحتياجات الحقل وليس العكس.
4) إلى المهنيات/ين العمال/العاملات الاجتماعيات بالوقوف معا من اجل تغيير سياسات الوزارة وفضحها وعدم الخوف والتأتأة, وكذلك لرؤساء سلطاتنا المحلية إذ تقع على عاتقهم مسؤولية المطالبة بالميزانيات ووضع موضوع خدمات الرفاه المقدمة لجمهور النساء والفتيات في سلم أولوياتهم.
وطبعا لنا كجمعيات نسوية /حقوقية حيث تقع علينا أهمية تدعيم بعضنا والوقوف جنبا إلى جنب في حال حاولت الوزارة التنكيل فينا وبطروحاتنا ومهنيتنا، وعدم القبول بمثل هذه السياسات أو محاولة إخضاعنا لإملائاتهم، إيماناً مطلقا منا انه لا يمكن أن نقبل أن يكون النضال ضد سياسات الوزارة على حساب النساء وحمايتهن، ولكن يمكننا خوض المعارك ضد السياسات الحكومية والوزارية سوية وتغيير مناهجهم في بيع القضية والتعامل مع النساء على كونهن أرقام وإحصائيات.