هناك قضايا تطرح على جدول الأعمال الوطنية التي تخص جماهيرنا الفلسطينية في البلاد وتكون من نوع القضايا التي بالامكان التعاطي معها مقياسا لمدى المناعة الداخلية والحصانة الذاتية في مجتمعنا، ومن ضمن هذه القضايا موضوع أو أشكالية الخدمة المدنية التي أكتسبت تسارعاً في الطرح منذ أن أصدرت لجنة أور توصياتها فيما يتعلق بأوضاع الأقلية الفلسطينية في البلاد وسارعت حكومة أسرائيل الى تشكيل لجنة لبيد التي حرّفت الكثير مما ورد في تقرير لجنة أور وجيّرته لصالح عملية الربط التي يمارسها اليمين الاسرائيلي ما بين حقوقنا الطبيعية وبين الخدمة المدنية، "وواجباتنا تجاه دولة إسرائيل". وبالطبع ازداد هذا الربط تعزيزاً وتصعيداً مع تعزيز قوة اليمين المتطرف والفاشي ومشاركته في الحكومة بعد الانتخابات الاخيرة .
ويبدو للوهلة الأولى أن حملة مقاومة ومناهضة هذا المشروع كانت من أنجح الحملات الوطنية التي شنت في السنوات الأخيرة، إذ نجحت لجنة مناهضة الخدمة المدنية التي تعمل الى جانب لجنة المتابعة العليا بإثارة الموضوع على المستوى الجماهيري العام وفي الإعلام بشكل مكثف، كما بادرت للدخول الى المدارس ولقاء الشباب والفتيات وشرح مخاطر مثل هذا المشروع علينا، كما أن الحملات الشبابية التي بادرت اليها مؤسسات العمل المدني ساهمت مساهمة جيدة في الموضوع. إلا أن الإحصائيات الحكومية المتعلقة بموضوع الخدمة المدنية تثير القلق وتؤشر بشكل واضح الى خلل في فهم الموضوع لدى قطاعات من مجتمعنا خاصة الجيل الشاب.
لقد أشارت الاحصائيات التي نشرتها مديرية "الخدمة المدنية" إلى أن عدد الخادمين العرب في العام 2008 كان 628 بينما ازداد العدد في العام 2009 ليصل الى 1022، مما يشكل 8.5% من مجمل المتطوعين في إسرائيل للخدمة المدنية و0.6% من الفئة العمرية 18-22 سنة من بنات وأبناء الجماهير العربية الفلسطينية.
إن حقيقة ازدياد عدد الخادمين بهذه النسبة ولو كانت من ناحية العدد هي ليست أعدادًا بالآلاف وإنما النسبة التي ارتفع بها العدد خلال عام قرابة الـ 60% هي العالية، وهو أمر مقلق ويجب أن يلفت انتباهنا بشكل كبير كونه يحمل مدلولات على التسارع في الهجمة الممارسة على شبابنا وشاباتنا من أجل إيقاعهم في حبال هذه المؤامرة السلطوية خاصة وأنه تم رصد ميزانية 116 مليون شاقل و56 موظفاً يعملون بشكل خاص على الموضوع.
أمر آخر مثير للقلق وهو نسبة الفتيات من بين من قاموا بتأدية الخدمة للعام 2009 وتصل الى 88%. ولا بد أن في ذلك مؤشر يجب الالتفات له. إن فتياتنا العربيات اللواتي يعانين التمييز المضاعف من الدولة وأجهزتها لكونهن جزء من الأقلية العربية الفلسطينية ومن ناحية أخرى من مجتمعهن العربي الذي يميز ضدهن لكونهن نساء ويمارس عليهن التضييقات. هؤلاء الفتيات تقوم مؤسسات الدولة باستغلال وضعيتهن المركّبة وكونهن من أكثر الحلقات استضعافاً في المجتمع لتنفذ من خلالهن الى داخل مجتمعنا وتطبق مخططاتها في موضوع الخدمة المدنية ومن ثم لاحقاً يبدو الخدمة العسكرية .
ونحن كنسويات ونساء وطنيات نشعر بالأسى والغضب إزاء هذا الاستغلال المثلث حيث تقوم السلطة مرة أخرى باستغلال نتاج سنوات من قمع مارسته على الجماهير الفلسطينية بشكل عام والنساء بشكل خاص، فتعمد إلى تجنيد الفتيات مما يؤدي الى تشويه الدور الذي قامت به نساؤنا على مدار عشرات السنين من مشاركات نضالية في الهم الوطني، وتخرج فتياتنا من هذا المسار حين تحولهن الى أداة تمارس السلطة من خلالها مؤامرتها القذرة.
وقبل أن نتسرع في إلقاء اللوم على الفتيات، علينا أن نتوقف للحظة وأن نتذكر أن وراء كل فتاة وشاب يقومون بالخدمة، والدين وعائلة وافقوا على هذه الخطوة ، بل وربما قد شجعوا ابناءهم عليها، مما يجعل دائرة التورط أوسع من الشباب والفتيات أنفسهن .
وإذا أخذنا في عين الاعتبار حقيقة كون العديد من مدراء المدارس والمعلمين وحتى رؤساء السلطات المحلية يساهمون ويشجعون الطلاب على الخدمة فإن الدائرة تتسع ...وتتسع. ولقد صرحت مفتشة عربية في وزارة المعارف قبل أيام, في إذاعة الشمس، ردا على الخطة التي أطلقها وزير المعارف جدعون ساعر وفيها ستقوم الوزارة بمنح مكافآت مالية للمدارس التي تشجع على الخدمة العسكرية والخدمة المدنية فقالت المفتشة " أن الخدمة المدنية أمر إيجابي كون الخادمين يقومون بأداء الأعمال داخل مجتمعهم مما يشجعهم على روح العطاء والتطوع " وأنا أتساءل الى أي مدى ستقوم أو قامت المفتشه ذاتها بتطبيق هذه الرؤية وبثها داخل مدارسنا العربية.
وعودة إلى موضوع الفتيات الخادمات, ورغم عدم تفهمي أو قبولي لأي من الأعذار التي تستعمل في تفسير قيامهن بالأمر إلا أنني أعتقد أننا بحاجة إلى فهم معمق للظاهرة ببعدها الجندري حتى نتمكن من صياغة الردود المناسبة لها وفي محاولة لفهم العوامل التي قد تدفع بالفتيات للوقوع في شرك هذه المؤامرة :
الرغبة بالانخراط في سوق العمل: إذا تذكرنا أن نسبة النساء العاملات في مجتمعنا هي 19% فقط وأن 40% من الاكاديميات عاطلات عن العمل وأن نسب البطالة عالية جدا بشكل عام في قرانا ومدننا، فإن بعض الفتيات يعتقدن بأن الفرصة الوحيدة المتاحة أمامهن للخروج من المنزل وكسب مبلغ من المال هي في الخدمة وقد يزيد ذلك من فرصهن المستقبلية لإيجاد مكان عمل أو على الأقل هذا ما يقوم سماسرة الخدمة المدنية من جمعيات تقوم وتنشط وتكسب المال من وراء كل فتاة يجندونها بتأكيده لهن لدى تسويق فكرة الخدمة. كما أن برامج التدعيم والتأهيل للحياة المهنية التي تقدمها هذه الجمعيات للفتيات خلال خدمتهن يدعم هذه الأكذوبة طبعا دون الخوض من طرفهم بالنقص القائم أصلا في مجتمعنا بأماكن العمل نتيجة لسياسة التمييز القومي التي تمارس ضد مجتمعنا العربي.
عامل أضافي يستغل ضد فتياتنا :
الأجور المتدنية للفتيات العاملات: لقد أثبتت العديد من الابحاث الميدانية أن معظم فتياتنا العربيات اللواتي يعملن في المصالح الخاصة بعد إنهاء الثانوية يعانين من الاستغلال ولا يتقاضين أكثر من 1000-1500 شاقل مقابل أحيانا 10-12 ساعة عمل. فإذا كانت هذه هي الظروف المتوفرة في الحالات القليلة التي يتوفر فيها العمل تصبح إغراءات الخدمة المدنية المادية أمام هؤلاء الفتيات أكبر.
يضاف إلى ذلك :
الأجواء الخانقة والتضييقات الاجتماعية: بالنسبة للكثير من الفتيات العربيات إنهائهن الثانوية وعدم وجود فرص عمل قد يؤدي بهن إلى وضعية يصبحن فيها حبيسات المنزل وتلقى على عاتقهن الأعباء المنزلية والقيام بكل الواجبات المنزلية لخدمة جميع أفراد العائلة مما يحول فرصة الخدمة إلى متنفس يخرجون فيه من المنزل ويتعرفون على عوالم أخرى، وحجة مقبولة للتهرب من الأعباء المنزلية.
ويبعد مروّجو فكرة الخدمة الى أبعد من ذلك عندما يطرحون :
حجة حق المرأة بالتطور: إن إقناع الفتيات بالخدمة يرتكز في كثير من الأحيان على استغلال شعارات الحركة النسوية في حق المرأة بالتطور والتعلم والعمل، وما لا يذكره هؤلاء أن كل فتاة تقوم بالخدمة غالبا ما تقوم بأداء أدوار تعتبر نسائية مثل السكرتارية أو في روضات الأطفال أو غيره... بمعنى أنه باسم حقوق المرأة تسلب وظائف وإمكانيات عمل من نساء أخريات هن صاحبات السن والتأهيل الملائم للقيام بهذه الأعمال، وأن التطور هو حق فردي لجميع البشر إلا أنه يبقى مبتوراً ومنقوصاً حين لا يدمج بحق الجماعة بالتطور الاقتصادي والاجتماعي ولا يمكن لفرد وفي هذه الحالة الفتاة أو المرأة العربية أن تنعم بحقوقها كاملة وهي جزء من أقلية مضطهدة تعاني التمييز والإجحاف.
وكما كنت قد أشرت في السابق أنه لا يمكن أن نفهم أي من هذه التحليلات على أنها مبررات إلا أنه علينا أن نتذكر أننا في سعينا لوضع إستراتيجية وطنية لمقاومة السلطة في محاولاتها سلخ أبنائنا وبناتنا عن النهج الوطني العام علينا أن نضع أيضا التصورات الصحيحة لمقاومة كل مغريات السلطة.
ففي خطابنا الرافض للخدمة المدنية والصادق ألف بالمئة نحن نتعامل مع الظاهرة ببعدها العام ( الماكرو) وتداعياتها على مستقبل جماهيرنا الفلسطينية وعلاقتها بالدولة، كل ذلك من خلال فهمنا للسياق التاريخي لهذه العلاقة والمخططات السابقة والحالية للسلطة لتمييع هويتنا الوطنية والقومية ومن خلال فهمنا لمنظومة حقوق الشعوب والأقليات ومفهوم المواطنة والدمقراطية.
إلا أن شبابنا وفتياتنا بالذات الذين يشكلون مجموعة الهدف لهذه المخططات في مرحلة عمرية لا تجعلهم قادرين، في كثير من الأحيان، على التعامل مع هذه الرؤية السياسية الشمولية, يعيشون سن المراهقة حيث الواحد والواحدة منهم يشعر أنه محور العالم والرؤية هي فردية وخاصة ( ميكرو) وفي غياب أو ضعف المبادرات لتطوير مفهوم الهوية الجماعية في العائلة أو المدرسة وفي زمن تحظى الفردانية بمفهومها الانتهازي بشرعية أو على الأقل بتواطؤ صامت من المجتمع تصبح عملية الربط بين المصلحة الفردية والمصلحة الجماعية الوطنية عملية عصية على عقول شبابنا وفتياتنا.
إن مجمل الادعاءات بما فيها الطرح الذي قامت بتقديمه مفتشة المعارف التي ذكرت سابقا، والتي تدعي أننا بهذا نعلّم شبابنا العطاء لمجتمعنا فهي كاذبة، فبناتنا وشبابنا الخادمين يتعلمون العطاء للدولة ولأجهزتها, ويتعلمون التمحور في ذاتهم ومصالحهم وليس في المجتمع أو الجماعة, وهم يتعلمون أن حقوقهم مشروطة وأن عليهم خدمة السلطة للحصول عليها بدل النضال من خلال الايمان بالحق الانساني الأولي. والأمر الأهم أنهم يتعلمون في الخدمة أكذوبة أنهم أول من يتطوع لخدمة مجتمعه فيمحون تاريخاً وحاضراً غنياً بتضحيات أبناء وبنات جماهيرنا في العطاء للمجتمع. كما أن في هذا الخطاب محاولة لتحميل الضحية خطيئة الجلاد فحين يفهم شبابنا وفتياتنا ولو تضليلا ولو لفترة قصيرة أن أباءهم وأمهاتهم بل مجتمعهم كله لم يحظ بالعمل أو لم ينجح في تطوير مؤسساته لأنه لم يكن معطاء أو لم يقم بواجباته ففي ذلك إعفاء للمؤسسة الحاكمة من مسؤوليتها عن سنوات طويلة من التمييز والاجحاف ونحن لسنا بحاجة لأن تتعاقب أجيال على هذا التضليل حتى تتمكن من كشفه وتقوم بالصحوة الحقيقية.
بقي أن نتذكر أنه من المهم أن نتدارك الوضع وأن نوقف هذا المد الذي تجير وتسخر فيه كل مؤسسات ومكاتب الدولة، فكل مسؤول في وزارة يحاول الترويج للخدمة وزيارات مسؤولي سلطة الخدمة المدنية لقرانا ومدننا والمقابلات مع رؤساء السلطات بدأت تزداد وبحسب المحفزات التي أعلن وزير المعارف عنها سيتهافت ربما بعض المدراء والمعلمين العرب ليصبحوا مسوقين لفكرة الخدمة. وفي ظل وضع كذلك فإن التحليل السياسي العام غير كاف وهنالك حاجة لتكثيف الجهود وفحص مجمل الامكانيات من ضمنها تطوير مشاريع وطنية تخدم مجتمعنا بحسب أولوياتنا التي نحددها وبروح وهوية وطنية بعيدا عن أذرع السلطة وهناك نماذج بالامكان دراستها والاستفادة منها.
وعلى هيئاتنا الوطنية ومؤسساتنا المجتمعية تمكين عافيتها السياسية وارتباطها بالجمهور والعمل على تطوير الانتماء والحس الوطني الذي من شأنه أن يرفع مناعتنا وحصانتنا المجتمعية.