لا يوجد استعمار أخلاقي:

منذ أن قرأتُ الشهادات الأخيرة التي وثّقها المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، وأنا أعيش اختناقًا لا يُحتمل. ليس فقط بسبب تفاصيل الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال بحق المعتقلين والمعتقلات الفلسطينيين — اغتصاب، تعرية، تصوير قسري، إذلال متعمّد — بل لأنّ ما كُشف ما هو إلا نافذة صغيرة على منظومة قمعٍ أعمق، مبنية على الذكورية والعنصرية، ومحصّنة بادّعاء "الأخلاق" الذي تتباهى به إسرائيل أمام العالم.

نحن أمام نظامٍ يُمارس التعذيب الجنسي ليس كاستثناء بل كسياسة، كأداة استعمارية لتدمير الإنسان الفلسطيني من الداخل — جسده، روحه، ذاكرته، هويته. لا شيء أكثر "ذكوريةً استعمارية" من أن يضع المُحتل جسد الأسير أو الأسيرة في مركز معركته لإخضاع الشعب بأكمله. فالاغتصاب هنا ليس رغبة، بل إعلان سيادة، تثبيتٌ لسلطة المحتل على الجسد كما على الأرض.

لكن ما يزيد هذا العنف فظاعة، هو أن العالم يشهد ويصمت. في الأسابيع الماضية، حين تسربت شهادات المعتقلين والمعتقلات إلى العلن، لم تُفتح محاكم للتحقيق مع الجناة، بل فُتحت ملفات لملاحقة من تجرّأت على التسريب. في قاعة المحكمة، وقف الجنود المشتبه بتورطهم في الاغتصاب، معترفين بأنهم "تجاوزوا"، فاستُقبلت كلماتهم بتصفيقٍ حارّ من الجمهور، ومن بعض الحاضرين الذين رأوا في اعترافهم "شجاعةً أخلاقية"! مشهدٌ يختصر كل ما يُراد إنكاره: أن الدولة التي تصف نفسها بأنها "الأكثر أخلاقًا في العالم" تُكافئ الجريمة وتُعاقب الحقيقة.

المدّعية التي سربت جزءًا من تسجيلات جلسات التحقيق حُوصرت بالتهديدات، والمحامي الذي أخرج شهادات الأسرى إلى العلن يواجه اليوم خطر سحب رخصته، لأنّ "أخلاقيات المهنة" في منطق الدولة الاستعمارية تعني التستّر على الجريمة، لا كشفها.

أيّ أخلاق هذه التي تُصفّق للمغتصب وتُحاكم من يفضح الاغتصاب؟

أيّ عدالة هذه التي تعتبر الجسد الفلسطيني ميدانًا مشروعًا للعقاب، والكرامة الفلسطينية مجرّد "أثر جانبي" للحرب؟

تُقدّم إسرائيل نفسها للعالم كـ"ديمقراطية" و"نموذجٍ للإنسانية"، لكنها في جوهرها نظام استعمار ذكوري يرى في السيطرة على الجسد الفلسطيني استمرارًا للسيطرة على الأرض. الذكورية العسكرية هنا ليست مجرد ثقافة، بل عقيدة سياسية تُشرعن القهر تحت شعار "الأمن". ومن خلال هذه الذكورية، يُعاد إنتاج الاستعمار بشكلٍ أكثر فجاجة: مستعمِر يبرر، ومجتمع يصفّق، ومؤسسات تُصمت الشهود، وإعلام يجمّل القبح.

حين تُغتصب النساء الفلسطينيات في مراكز الاحتجاز، وحين يُنتهك الرجال الفلسطينيون بأدواتٍ وحيوانات مدرّبة، فإنّ الجريمة ليست فقط ضدّ الجسد، بل ضدّ الهوية والإنسانية. هؤلاء الضحايا ليسوا أرقامًا في تقرير حقوقي، بل شهود على انهيار الأخلاق التي يدّعيها العالم حين يتعلّق الأمر بفلسطين.

لا يوجد استعمار أخلاقي.

لا يمكن لأي جيش يزرع الكاميرات في غرف التعذيب ويمنع الكاميرات من دخول السجون أن يدّعي الأخلاق.

ولا يمكن لأي محكمة تصفق للمغتصبين أن تمثل العدالة.

في النهاية، الاغتصاب في السجون الإسرائيلية ليس انحرافًا فرديًّا ولا حادثًا نادرًا، بل ممارسة تُعبّر عن جوهر المشروع الاستعماري ذاته: ذكوري، عنصري، عنيف، يقتات على تحطيم الآخر. وكل تصفيقٍ في المحكمة هو تأكيد على أن العنف الجنسي هنا ليس عارًا فرديًا بل فخرًا وطنيًا.

ولذلك، لا نحتاج إلى بيانات جديدة تُدين الجريمة، بل إلى وقفة صادقة من داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، وبالأخص من الحركة النسوية فيه. فهذه لحظة اختبارٍ حقيقي لنسويّتهن وإنسانيّتهن: إمّا أن يواجهن الحقيقة المروّعة بأنّ جيشهنّ يمارس العنف الجنسي كأداة حرب واستعمار، وأنّ أجساد النساء الفلسطينيات تُنتهك باسم “الأمن”، أو أن يواصلن الصمت الذي يجعل من نسويتهنّ امتدادًا لبنية القمع ذاتها. إنّ المبادئ التي لا تقف إلى جانب الضحايا حين يكون الجلاد من “داخل البيت” ليست مبادئ، بل تواطؤ مُزيَّن بخطاب المساواة. وإن لم تقف النسويات الإسرائيليات اليوم إلى جانب قيم العدالة التي يتغنّين بها، فلن تقف تلك القيم معهنّ غدًا حين يُعاد توجيه العنف نفسه ضدّهنّ.

https://alittihad44.com/writer/794017 

نادرة أبو دبي سعدي