التدخل المهني بالنساء العربيات المعنفات في ظل الثوابت الاجتماعية السائدة

التدخل المهني بالنساء العربيات المعنفات في ظل الثوابت الاجتماعية السائدة

خلفية تاريخية
لقد خلق الاحتلال الإسرائيلي عام 1948, عند الأقلية الفلسطينية في البلاد خوفاً من أن تذوب بداخل المجتمع الإسرائيلي وعاداته الغربية, الشيء الذي جعلها تتبع العديد من الأساليب والطرق التي تستعملها في السابق, لكي تحافظ على هويتها وعاداتها وتقاليدها. ففي حين اقتصر لبس الحجاب على النساء القرويات المتزوجات والبالغات قبل قيام الدولة, تحولت الأقلية الفلسطينية لتفرضه على الفتيات الصغار أيضا, من منطلقات مجتمعية بحتة لا علاقة لها بالدين.
موضوع تحرير المرأة من القمع المجتمعي لم يأخذ حيزاً في عمل المنظمات النسائية والأحزاب المختلفة في صفوف الأقلية الفلسطينية, لان نضالهم انحصر في المجال السياسي والنضال من اجل نيل الحقوق وضد قوانين الدولة المجحفة, باعتقاد أن مشكلة النساء هي جزء لا يتجزأ من مشكلة الشعب الفلسطيني. إما النضال الاجتماعي فقد عرف كنضال على تحصيل فرص تعليم وعمل, ورفع أجور, وضمان شروط معيشية معقولة, إما محاربة المشكلة الأساسية وهي العنف ضد النساء واستباحة قتلهن فقد كانت وما زالت هامشية.
أيضا كان للأحزاب التي تعرف نفسها كأحزاب تقدمية ومتنورة, دوراً جدياً بتهميش موضوع تحرير المرأة, فخوفاً من أنما تخسر اصواتاً – حتى أصوات أصحاب الفكر المختلف بكل ما يتعلق بحرية المرأة ودورها في المجتمع- تدعي هذه الأحزاب أن لا دخل لها بموضوع المرأة لأنه موضوعاً "نسائياً" وليس "اجتماعياً", فسكتت سكوتاً فاضحاً أمام جرائم وحشية ارتكبت بحق النساء, مما أدى لتوسيع رقعة هذه الظاهرة وتعميق جذورها.

بداية النضال من اجل رفع مكانة المرأة
في نهاية سنوات الثمانين, لوحظت بعض التغييرات, وتكتلت الحركات التي كانت تعمل من اجل رفع مكانة المرأة بصورة فردية, وبدأت تبرز توجهات نسوية في عمل هذه التنظيمات والحركات, مما اثر بصورة مباشرة على تعامل المجتمع مع موضوع المرأة ومشاكلها.
النضال من اجل تحرير المرأة بدأ في إطار حركات نسوية إسرائيلية, أو إسرائيلية عربية, التي تعاملت مع موضوع المرأة من منطلقات نسوية, العاملات في هذه الأطر نظرن للنساء لمشاكلهن ولمكانتهن في المجتمع, ولتقديم المساعدة لضحايا العنف. ومن الجدير ذكره أن هذه الأطر والتنظيمات لم تحصل على دعم ملموس بداخل المجتمع, وعرفت كتنظيمات غربية متطرفة.
بعد ذلك أقيمت تنظيمات نسائية ونسوية من اجل المجتمع العربي, وشددت على خصوصية المشكلة في المجتمع العربي, وطورت لنفسها استراتيجية عمل خاصة تختلف عن استراتيجية التنظيمات أن تنتمي لأطر ذكورية قائمة, أو للأحزاب القائمة, مما ساعدها على المضي قدماً نحو الاستقلالية والتحرير والشعور بضرورة اتخاذ قرارات مستقلة.

التدخل المهني في ظل الثوابت والقيم القائمة
حين نتحدث عن "قيم", فنحن نتحدث عن شيء ذو قيمة ومهم ويجب المحافظة عليه. لكن للأسف الشديد, فان " القيم الاجتماعية" الموجودة في مجتمعنا تشدد على تدني مكانة المرأة, وذلك بواسطة التقسيم الوظائفي غير المتساوي, وطريقة تنشأة وتربية الأطفال في العائلة, والتعامل بمعيارين في المؤسسات التعليمية وسوق العمل والمؤسسات الدينية والقوانين المدنية.
العائلة في مجتمعنا ترتكز على معايير غير متساوية, ودونية المرأة هو شيء ثابت في تربية الأطفال, فمنذ ولادة الطفل الذكر يتعلم انه تابع للشريحة المفضلة, في حين تتعلم البنت أنها تابعة للشريحة المتدنية.
هذه الثوابت الاجتماعية تسبب رادعاً جدياً للنساء المعنفات اللواتي يفكرن بترك أزواجهن, فهوية المرآة المتزوجة مربوطة بصورة مطلقة بزوجها وليس بأفعالها هي. وكلما كان تعلقها المادي والعاطفي بزوجها اكبر, يكون احتمال تعرضها للعنف من قبل زوجها اكبر, فإذا تركت زوجها تكون قد خسرت هويتها, ولقمة عيشها وعيش أولادها, ومكان سكناها, وبيتها, وعائلتها ومعارفها وكل شيء.
لذلك فالمشكلة التي تنتج عند المهنيين مع النساء اللواتي يتوجهن لتلقي المساعدة, هي أنهن يكن معزولات في إطار العائلة, ولم تتعودن على مواجهة اصغر وابسط الأمور, فالمرأة تذوت بداخلها على أنها غير قادرة على التعامل مع مهنيين ومحاميين و..., وتقييمها لذاتها لا علاقة له بأفعالها كما هو عند الرجال, بل بجمالها وقدرتها على ان تحصل على "عريس جيد", وان تكون "امرأة جيدة", ما يعنيه أن تكون لا مبالية وخنوعة.
والمرأة الجيدة لا تحاول إبراز ثقافتها, لذلك فان المرأة تصل إلينا مع تقييم ذاتي متدني جداً, لا تؤمن ان بقدرتها التصدي للعنف. حتى أنها في بعض الأحيان لا ترى بنفسها انسانة كاملة, تستطيع العيش لوحدها ومواجهة "المجهول", الذي ليس هو العائق الوحيد أمامها, فالعادات والتقاليد الموجودة, تقف كلها بوجه المرأة لمنع التغيير الذي تريده, فرجال الدين يقولون لها لا, والأحزاب- حتى تلك التي تتغنى بالأيدلوجيات المتنورة- تقول لها لا, وتهمش المشاكل الاجتماعية لصالح المصالح السياسية, وبهذا تكون الأحزاب قد ساعدت على تعميق المبني الاجتماعي الموجود, والذي يعارض بشدة النضال من اجل تحرير المرأة.

هل هناك تغيير حقاً؟؟
في الآونة الأخيرة نلاحظ بعض التغييرات في وضع المرأة, وفي الوظائف التي تشغلها, وتقلص من خنوعها وانتمائها المطلق للعائلة والرجل, والجدير ذكره هنا أن هذا التغيير لم يحصل نتيجة وعي المرأة, بل بسبب الضغوطات الاقتصادية, التي هدمت جدار "الشرف" الذي وقف دائماً إما تعلم وتعليم المرأة. لذلك فالتغيير لم يحدث انقلاب راديكالي بمكانة المرأة, لكنه هز الوضع القائم القديم, ويمكن اعتبار هذا التغيير كخطوة انتقالية فقط, فالوضع فيما يتعلق بسلطة الرجل / الزوج لم تتغير, وذكورية المجتمع لم تتغير, كما إن القانون لا يعطي أجوبة بعد لضمان حقوق المرأة. المفارقة التي تواجهنا أثناء عملنا, والتي تشكل عائقاً حقيقياً نحو التغيير هي إننا نعمل مع طرف واحد من المشكلة هي المرأة (الضحية), ولكن من وكيف يعمل مع "صاحب السلطة" الذي عنف المرأة, والذي يأخذ الدعم والتشجيع والشرعية من كل من حوله, ولا يوجد أي سبب يجعله يتعاون من اجل التغيير الذي سيمس بمكانته. بعملنا مع النساء وتمكينهن نحن نفتح لهن المجال للتغيير, ولكننا نعي جيداً أنهن ستدفعن ثمناً باهظاً, لان الهوة بينها وبين زوجها ومحيطها سوف تتسع أكثر وأكثر.

الخلاصة
لا شك أن مكانة المرأة في مجتمعنا لا تساوي مكانة الرجل, لكن هذا لم ينتج عن فروقات طبيعية بين الإناث والذكور, بل لان الرجال هم أصحاب الحق – حسب الثوابت الاجتماعية- على التفكير والإنتاج الاجتماعي, بالمقابل فالمراة محدودة بصورة كبيرة لإبراز قدراتها الإنسانية.
الاحتكار الذي حصل عليه الرجال في الماضي بطرق غير معروفة, أعطاهم الإمكانية لبناء مؤسسات المجتمع حسب مصالحهم هم, مما أدى إلى وضع المرأة في أماكن متدنية.
لكن الشيء الوحيد الذي لا يستطيع أن يؤثر عليه هذا الاحتكار هو قدرة المرأة على التفكير والإنتاج, بكونها جزءاً من الخلقية الإنسانية. وبكلمات أخرى: الاحتكار ألذكوري على الإنتاج الاجتماعي, لن يؤدي لان تكون المرأة متدنية "فعلياً", وقوة الرجال تكمن بان هذا الاحتكار هو وراثي ينتقل من جيل إلى جيل.
فبالرغم من المحاولات الحثيثة لتثبيت الشخصية "النسائية" لكل امرأة وامرأة, في داخل البيت, في المدرسة, في الشارع, في وسائل الإعلام, إلا انه ليس كل النساء "يستوعبن" شخصية المرأة الخنوعة, المتدنية, المستعدة لتقبل تعليمات "الرئيس" كمفهومة ضمناً, وبنفس الاتجاه يمكن الحديث عن الرجال, فليس بإمكان كل رجل أن يكون "ناجحاً" كما يريده المجتمع, وليس كل رجل يشعر آمناً بفوقيته.
بكلتا الحالتين يعتقد الرجال إن بامكانهم تصليح "الخطأ بالتربية" بواسطة العنف: فحينما لا تنفذ المرأة وظيفتها كاللازم, يستطيع الرجل بواسطة "العنف" ان يعيدها الى مسارها الطبيعي, وحين يكون الرجل نفسه غير واثق من فوقيته في إطار العائلة, فهو يستطيع إثبات هذه الفوقية بواسطة "العنف" أيضا. ولنفترض أن المرأة بالرغم من كل شيء هي مخلوق هام ومنتج (وهذا صحيح جداً) وغير مستعدة لان تعيش بدونية, فان الرجل يحاول المحافظة على الاحتكار الذي منحه إياه المجتمع, بتضييق إمكانيات تعبير النساء بشتى الطرق.
كل هذه الأمور تضعنا في مفارقات وتساؤلات صعبة, وكلي أمل أن نستطيع إيجاد الأجوبة للأسئلة الكثيرة التي برزت, بشرط أن تتغير الثوابت الموجودة بمجتمعنا والتي تقضي بدونية المرأة, تغييراً جدياً, لكن يجب الانتباه والحذر من المس بالقيم الجدية والايجابية والثمينة الموجودة عندنا.